فصلٌ
فيما جرى عند لقائه عليه السلام الحر رضي الله عنه
انْظرْ بعَينِ الفِكرِ والبَصيرة...ما لِلإمامِ مِنْ جَمِيلِ السِيرَة
ما حلَّ أمرٌ مِنْ جَليلِ الخَطْبِ...إلاّ تلقّاه بصَدرٍ رَحْبِ
كانَ مَعَ الصَفوَةِ مِنْ شِيعَتِه...وَأهله والغُرُّ مِنْ أُسْرَتِه
فَصادَفَ الحُرَّ بيومٍ شامِسِ...يَصْحَبُه زُهاءُ أَلفِ فارسِ
جاؤُوا إليه وَهمُ أَعداءُ...ولم يَبِنْ مِنْهمْ لَه وِلاءُ
جادَ لَهمْ على ظَماً بالماءِ...حتى ارْتَووا بأَحْسَنِ الرِّواءِ
وَغادرَ العَطْشى مِنَ الأَفْراسِ...تَشْرَبُ بالقِصاعِ والطِساسِ
وقَدْ جَرى لَه معَ المُحارِبي...من سَعَةِ الخُلْقِ ولِيْنِ الجانِبِ
قامَ بنَفْسِه إلى السِقاءِ...حتى سَقاهمْ مِنْ زُلالِ الماءِ
يا سعدُ صرِّحْ ليَّ بالجوابِ...وأوضِحِ الحقَّ ولا تُحابيِ
أَمِثْلُه وَهوَ ابنُ ساقي الكَوثَرِ...وَمالكِ الحوضِ بيومِ الْمَحْشَرِ
يَصْدُرُ ظمآنَ الفؤادِ صادِي...وقد أُبيحَ الماءُ للورَّادِ
أَمِثْلُه يَحُقُّ للفُجَّارِ...أنْ يمنَعُوا عنه الفُراتَ الجاري
ويُظْمِئوا عِيالَه وأَهلَه...ويُعْطِشوا رَضيعَه وطِفْلَه
وهلْ مِنَ العَدلِ أَوِ الإنصافِ...من عُصبةِ الضلالِ والخِلافِ
أن يَقْلِبوا لِمْثلِه ظَهرَ الْمِجَنْ...ولا يُقابِلُوا الحُسَينَ بالحَسَنْ
مِنْ بَعدِ ما أنْ كَتَبوا ما كَتبَوا...وأَوْجَزُوا في قولِهمْ وأَطْنَبوا
قَدْ طَلَبوا قُدُومَه أيَّ طَلَبْ...وأَظْهرُوا مِنَ الوَلاءِ ما أَحَبْ
فجاءَهمْ مُلبِّياً مُجِيبا...يَطْوِي الفلا ويَقْطَعُ الشُعوبا
لأَنْ يَكُونَ كَالأَبِ الشَفيقِ...يَهدِيهمُ لواضحِ الطَريقِ
يَدفَعُ عنهمْ كُلَّ جَورٍ وَعَنا...لِيَبْلغُوْا في الدِّينِ والدُّنْيا المُنى
حتى إِذا ما حَلَّ في دِيارِهمْ...مُؤَمِّلاً للفوزِ بانتِصارِهمْ
وكانَ فيما بَينَهمْ كَالضَيفِ...كانَ قِراه منهمُ بالسَيْفِ
ولَيتَ أنَّ القَومَ لمَّا كانوا...على خِلافِ ما لَه أَبانُوا
لمْ يَمْنَعُوُه السَيرَ في الطّريقِ...ويَأخذُوا عَليه بالمَضِيقِ
يَعُودُ مِنْ حَيثُ أَتاهمْ قافِلا...لا يَبْتَغي مِنهمْ سِواها نائِلا
قالوا: أَتى الأَمرُ مِنَ الأَميرِ...بمَنْعِكَ اليومَ مِنَ المَسِيرِ
فأَنْزَلوا الحُسَينَ بالعَراءِ...بغيرِ ماءٍ وبِلا كَلاءِ
فَقامَ في أصحابِه خَطيبا...ولم يكنْ في الأَمْرِ مُسْتَرِيباْ
قالَ: أَلا تَرَوُنَ ما قَدْ نَزَلا...وما عَرَا مِنَ الخُطُوبِ والبَلا
ولا أَرى الحيَاةَ إلا بَرَما...والموتَ إلاّ راحةً وَمَغْنَما
أَدبرَتِ الدُنيا وقَدْ تَنَكَّرتْ...وعَنْ قديمِ حالِها تَغيَّرتْ
لم يبقَ من نَعيمِها إلا الوشَلْ...وغَيرُ عيشٍ مُستَهانٍ مُبْتَذَلْ
لا يتَناهونَ بِها عنْ باطلِ...وكُلُّهمْ بالحقِّ غيرُ عامِلِ
فقَامَ مِنْ أَنصارِه ابنُ القَينِ...وقالَ قَولاً ما به مِنْ مَيْنِ
وَآثَرَ الموَتَ مَعَ الإمامِ...على الحياةِ دائِمَ الأَيامِ
كذا هلالٌ وبُرَيرٌ قاما...وَأَبدَيا عَزْمَاً أبي قداما
وقد تَساوى الصَّحْبُ في الحِميّة...وفي الوَلاءِ وَخُلُوصِ النِيّةْ
فَسارَ بعدَ أنْ جَرَى الذيْ جَرَى...لا يَنْثَني بالعذلِ عَما أُمِّرا
وَالقومُ تارَةً يُسايرُونَه...وتارَةً أُخْرَى يُمانِعُونَه
حتى إذا ما جاءَ أرْضَ كرْبلا...وَعاذَ منْ كَرْبٍ بِها ومِنْ بَلا
وقال انزِلوا فَهيَ مَحَطُّ رَحْلي...وَهيَ محلُّ تُرْبَتي وَقَتْلي
إني عَلى عِلْمٍ بذا وخُبْرِ...حَدَّثَني جَدّي بهذا الأَمْرِ